{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

أسرار التنزيل - 1428هـ

هذه الآية جاءت من جملة ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء، وأرشد به خلقه.

إن كون الإنسان يعطى حظاً من علم من دلالة توفيق الله له، لكن الله يخاطب في هذه الآية أعلم الخلق بالله نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول له جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء من الآية:36].

وإن من أعظم الكذب أن يكذب الإنسان ويفتري على الرب تبارك وتعالى، ومن رزق العلم الحق رزق الخشية، ومن رزق الخشية خاف أن يقول على الله ما ليس له به علم.

فبادره وخذ بالجد فيه *** فإن أتاكه الله انتفعـت

فإن أوتيت فيه طويل باع *** وقال الناس إنك قد رؤست

فلا تأمن سؤال الله عنه *** بتوبيخ علمت فهل عملت

ذكر الناس ممن كان قبلنا أن العرب في جاهليتهم كانوا يعمدون إلى رجل يقال له (عامر بن الضرب العدواني)، يحتكمون إليه في جاهليتهم إذا اختلفوا. فجاءه مرة وفد من إحدى القبائل فقالوا له: "يا عامر وجد بيننا شخص له آلتان؛ آلة للذكر وآلة للأنثى ونريد أن نورثه فهل نحكم له على أنه أنثى أو نحكم له على أنه ذكر؟"، فمكث هذا الرجل المشرك أربعين يوماً لا يدري ما يصنع بهم.

وكانت له جارية ترعى له الغنم يقال لها: (سخيلة) فقالت له في اليوم الأربعين: "يا عامر قد أكل الضيوف غنمك ولم يبق لك إلا اليسير أخبرني"، فقال لها: "مالك وما لهذا انصرفي لرعي الغنم"، فأصرت عليه، فلما أصرت عليه الجارية أخبرها بالسؤال وقال لها: "ما نزل بي مثلها نازلة"، فقالت له تلك الجارية التي ترعى الغنم: "يا عامر أين أنت؟ اتبع الحكم المبال!!"، أي إن كان هذا الشخص يبول من آلة الذكر فاحكم عليه على أنه ذكر وإن كان يبول من آلة الأنثى فاحكم عليه على أنه أنثى، فقال لها: "فرجتها عني يا سخيلة"، فأخبر الناس.

قال الإمام الأوزاعي رحمه الله معقباً على هذه القصة: "قال هذا رجل مشرك لا يرجو جنة ولا يخاف ناراً ولا يعبد الله ويتوقف في مسألة أربعين يوماً حتى يفتي فيها، فكيف بمن يرجو الجنة ويخاف النار كيف ينبغي له أن يتحرى إذا صُدِر للإفتاء و إذا سأل أمراً عن الله جل وعلا".

ولقد أدركنا شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله ـ صاحب أضواء البيان ـ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عندنا أنه قد جاءه وفد من الكويت يسألونه مسائل شرعية والرجل في آخر أيام حياته، ولو قال قائل آنذاك أنه ليس على وجه الأرض آنذاك أحدٌ أعلم منه لما ابتعد عن الصواب، ومع ذلك لما سألوه قال: "لا أدري لا أدري لا أدري"، فلما أكثروا عليه، غير هيئة جلسته ثم قال: "أجيب فيها بكتاب الله"، فانتظر الناس الجواب فقال رحمه الله: "أقول كما قال الله {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء من الآية:36]"، فلما أكثروا عليه رحمه الله قال: "قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، أما أنا فلا أحمل ذمتي من كلام الناس شيئاً لا أدري"، هذا وهو هو في منزلته وعلمه رحمه الله تعالى.

والمقصود في هذا موعظة لكل من صدره الله؛ لا يغتر بكثرة حضور الناس له، أو لا يجب عليك أن تجيب إن كنت لا تعلم، ولقد قالت الملائكة وهم الملائكة عند ربها {قَالُواْْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].

ومن دلالة الخشية والتقوى أن لا يقترب الإنسان هذه الحجز وأن يقف عند ما أوقفه الله جل وعلا عليه. فلا يقل على عينه ما لم ترَ، ولا يقل على سمعه ما لم يسمع، ولا يتحدث على لسانه ما لم يقل {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36].

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .